حضور الماء عند الموريتانيين قديما وحديثا / النبهاني ولد أمغر

الماء = الحياة
قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ. صدق الله العظيم.
حدث عن أهمية الماء في الحياة ولا حرج، فعليه اعتماد الإنسان المطلق لقضاء احتياجاته في إعداد الأطعمة والمشروبات، وله يستخدم في مجال الزراعة، وذلك لري النباتات، وزراعة المحاصيل التي تلزم لغذاء الإنسان والحيوان، وعليه اعتماد المصانع، فالماء أحد أهم المدخلات، والموارد العملية الصناعية، سواء كانت صناعة المواد الغذائية أو صناعة المواد الصلبة، وكذلك صناعة الطائرات والسيارات، وفي عصرنا الحالي تتم الاستفادة منه لتوليد الطاقة الكهربائية. 
كما يعتمد الإنسان على الماء لتلبية احتياجاته الشخصية، كالاستحمام، أو القيام ببعض الأعمال اليومية مثل التنظيف، والأهم من ذلك  الاعتماد عليه في توازن حرارة الجسم، وحرارة سطح الأرض، فالإكثار من شرب الماء فيه حماية الإنسان من الإصابة ببعض الأمراض الخطيرة، مثل: أمراض القلب، ولا تتوقف أهميته عند ذلك بالنسبة لجسم الإنسان، حيث يعتبر الماء مهما جدا لصحة الانسان، فهو يزيد نسبة الأيض، كما يعمل على التخلص من الوزن الزائد، والدهون، وينصح بشرب كوب من الماء الفاتر صباحاً، وذلك لحرق السعرات الحرارية بشكل أسرع،  و يقي الجسم من الإصابة بمرض السرطان، وخصوصاً سرطان الجلد والدم، وذلك من خلال حمايته من الجفاف، وتخليصه من السموم، ويحافظ الماء على ترطيب الجسم، وعلى مستوى السوائل، و نسبة الميوعة في الدم، ويزيد نسبة التركيز، و يساعد على عملية الهضم، ويحد من مشاكل التشنج، وعسر الهضم، ويقي من حالات الإمساك، وذلك أن الجفاف أحد الأسباب الرئيسية للإصابة بالإمساك، ويحمي الكلى من الحصوات، فهو  يحد من الترسبات التي تتحول إلى حصوات، ويزيل السموم من الجسم، وينظم حرارته،  ويرطب البشرة، وإفراز العرق، و يحد من الإصابة بالتشنجات العضلية، ويعالج حالات الصداع المفاجئ، و يعالج البشرة من الحبوب والرؤوس السوداء، و يحارب علامات الشيخوخة، وعلامات التقدم في العمر، و يوحد لون البشرة ويساعد على التخلص من البقع السوداء، ويقي الدماغ من الإصابة بالتلف، كما يقي من الأمراض المتعلقة به، ويحسن المزاج، ويحد من حالات التوتر، والقلق، والاكتئاب، ويساعد على التخلص من الرائحة المزعجة الصادرة من الفم.
ويؤكد الأطباء أن الفرد يحتاج لترين من الماء في اليوم، على الأقل، للحصول على جسم صحي، ويختلف هذا المقدار من شخص لشخص، وذلك حسب العمر.

 


الماء وهذه الصحراء


إذا كان الماء قد اصطلح على تسميته بعصب الحياة، فإن الأمر يزداد دلالة وتتضح أبعاده أكثر فأكثر عندما نستحضر موقع بلادنا الصحراوي الجاف، والذي تنعدم فيه مصادر الماء الدائمة وأحيانا المؤقتة.
لقد ظلت الصحراء منذ الأزل مدينة بحياتها - وإن كانت قاسية للماء - رغم أن ما يوجد منه قليل وصعب المنال.
لقد أدمن من سكنوا هذا الحيز من الصحراء الكبرى من مبتد! أمرهم البحث عن مصادر الماء في بيئة كالحة لا تنبت تلك المصادر
ولا تستبقيها إن وجدت، وظلوا خلال تاريخهم الطويل، يغالبون واقعا صعبا من أجل الحصول على الماء، وشكل انحباس المطر مواسم متتالية في بعض الفترات الكابوس المرعب لمن استعمروا هذه الأرض، ولعل انعدام العمران في أجزاء شاسعة من هذا الحيز الذي أقام فيه الأوائل، مرده إلى ندرة الماء، فلا عمران بدون ماء كاف.
وهناك مناطق شهدت في الفترات الغابرة عمرانا، وتشكلت فيها حياة نابضة بالحركة العلمية والتجارية وبالتواصل مع المحيط، لكنها ضعفت لاحقا، ومنها ما تلاشى واندثر، وكان عامل نفاد الماء العامل الأبرز في ذلك المصير المرير.
لقد ضم هذا العمق الصحراوي من هذا الحيز الذي نسكنه، فى فترات ماضية نقاط مياه قليلة ومتباعدة، كان من ألِفها من السلف يحفظ عن ظهر غيب المسافة التي تفصل كل واحدة منها عن الأخرى، والتضاريس التى تختص بها كل نقطة عن غيرها من النقاط، وأي ضرب في مناكب تلك الصحراء الصعبة المراس، من غير العارفين بمسالكها ودروبها
الوعرة، يعد نوعا من المجازفة الخطيرة التى قد تؤدي بحياة من رامها.
وطيلة التنقل الدائب فى مختلف أجزاء هذا الفضاء الجاف، ورحلات الشتاء والصيف، كانت للناس اختراعات مشهودة ومدونة فى البحث عن المياه ومصادرها والمحافظة عليها، والاختراع وليد الحاجة، كما يقال، فكان منهم من يهتدي ببصيرته إلى النقاط التي يتوفر فيها الماء الصالح
للشرب، أحيانا بحصاها، وأحيانا بشم قبضة من تربتها فجرا وهي مبللة بقطرات الندى، ومنهم من يهتدي للأمر من خلال مراقبة سلوك بعض الحيوانات، فالغربان يعتقدون أنها لا تحفر الأرض بمناقيرها في أوقات معينة إلا إذا كانت تحس بوجود الماء فى تلك الأماكن.
كما كانت لهم طرقهم المميزة فى حفر الآبار ونقاط المياه بعد تأكدهم من وجود الماء من خلال عمليات تنقيبهم الآنفة.
ومن أغرب ما يروى فى هذا السياق، بئر فى منطقة صلبة وعرة لا زالت قائمة إلى يوم الناس هذا، حفرها القوم بواسطة تقنية «صب السمن» فقد كانوا خلال حفرها يعمدون إلى إراقة زق سمن فيها كل مساء ويتركونه يُلين صُمَّ الصخور، وفي الصباح ينزعون ما أَلَانَهُ السَّمْنُ ليلا، وهكذا حتى تفجرت البئر ماء زلالا.
كما كانوا يَمُتحون الماء من الآبار الطويلة من خلال استخدام الحيوانات من إبل وحمير وثيران فى سحب الدلاء.
وتختلف الآبار من منطقة لمنطقة، تبعا لتضاريس كل منطقة، فمنها سهل الحفر ومنها صعبه، ومنها كثير الماء الذي لا ينضب، ومنها قليله الذي لا يغسل دم راعف، كما يقال، ومنها الطويل الذي لا يمتح إلا برشاء طويل،
ومنها البُغَيْبِغُ القصير الذي يُنْزَعُ بالْعِقَالِ.
وخلال تاريخها أودت الآبار في هذه الصحراء بكثير ممن حفروها بعد أن انهارت عليهم أثناء عملية حفرها الأولى أو في عمليات إصلاحها اللاحقة أو تجديدها.

 


الماء والثقافة


وفي المجال الثقافي تأثرت ثقافة القوم بالماء والآبار، فقد أفرزت مدونة فقهية ثرية بالفتاوي والأحكام والنوازل المتعلقة بالماء والآبار ونزاعاتها والخصومات التي تنشب حولها.
ومن مظاهر حضور المياه والآبار ثقافيا واجتماعيا فى هذا الحيز، ظاهرة ارتباط البئر أو الماء بأهله حتى يصبح مرادفا لهم ودالا عليهم.
وقد حفلت المدونة الشعرية فصيحة وحسانية عند القوم، بالنصوص وثيقة الصلة بهذا الموضوع، فهناك من أورد الآبار والمياه للتغنى بها وذكر عهودها الزاهية فى نصوص نسيبية وغزلية، وهناك من أوردها لمدحها أو ذمها، وأكثر شعر القوم القديم في الهجاء له ارتباط بالآبار ومنع السقي منها، وقد ذكر العلامة محمد سالم ولد عدود رحمه الله، مرة في حديث خاص، أن قسما كبيرا من أدب الهجاء عند أهل هذا الحيز، كان بسبب منع السقي عند الآبار أو تعكيره.
وقد دأب أحد الشيوخ الأفاضل أن يسأل كل موسم أحد الشعراء المجيدين، "أين كسرت الغنم صومها هذا العام (امنين كصرت لغنم الززو)" لتيقنه أن حاجة غنم الشاعر للماء ستجعله يصطدم بأهل المورد الماء، فإما أن يسقون له فيقول فيهم مدحا أو يمنعوه الماء أو يعكروا صفو سقيه فيقول فيهم غير ذلك، وفى كلتا الحالتين فالشيخ يريد أن يسمع ما قال.
ومع استقلال البلاد عرفنا لأول مرة شبكات المياه الحديثة. ومع ذلك فقد ظلت الآبار التقليدية موجودة. وفي العقدين الماضيين تعززت هذه الشبكات الحديثة.
وتتوفر البلاد على مصادر مهمة للماء الصالح للشرب من أبرزها نهر السنغال (نهر صنهاجة) الذي يزود العاصمة نواكشوط بالماء. كما يزود عدة مدن على الضفة، فضلا عن ريه سهل شمامة، ومن مصادر المياه الجوفية المهمة، بحيرة اترارزة، وبحيرة اظهر وحقول مياه جوفية مثل حقل «بو احشيشه» في لبراكنة وحقل بلنوار الذي يزود نواذيبو بالماء.
ورغم هذه المصادر المهمة والمتعددة فإن بعض مناطق البلاد تعاني فقرا مائيا شديدا، الشيء الذي يتطلب التفكير فى حلول ناجعة.
ويرى المهتمون أن من تلك الحلول شق قناة من النهر تمتد من بوكى باتجاه ألاك ومن ألاك باتجاه تجكجه، ومد الأنابيب من نواكشوط شمالا نحو تيرس الزمور مرورا بآدرار وإينشيري.
والتحدي الأبرز الذي ينبغى تجاوزه والرهان الذي لا بد من كسبه، هو المحافظة على ثروتنا المائية الموجودة مع البحث عن ثروات مائية أخرى يمكن الوصول لها في عالم يقال إن حروبه المستقبلية ستكون حروبا مائية وأن سعر برميل الماء فيه سيصل فى قادم الحقب إلى سعر برميل النفط أو أكثر.